الأقسام الشائعة


بسم الله الرحمن الرحيم


كتاب نصب الراية في دراسة لفظة "لم يعملوا خيرًا قط" الواردة في حديث الشفاعة رواية ودراية ص 104





قال العلامة ابن رجب في كتابه [فتح الباري 1/21]: ((ونقل حرب عن إسحاق قال: غلت المرجئة حتى صار من قولهم: إنَّ قومًا يقولون: مَنْ ترك الصلوات المكتوبات وصوم رمضان والزكاة والحج وعامة الفرائض من غير جحود لها لا نكفره، يرجى أمره إلى الله بعد، إذ هو مقر، فهؤلاء الذين لا شك فيهم، يعني في أنهم مرجئة. وظاهر هذا: أنه يكفِّر بترك هذه الفرائض)).
وجوابه:
الأول: إن كان مراد إسحاق رحمه الله تعالى أنَّ العبد يصح إقراره بالشهادتين -عند المرجئة- وإنْ ترك العمل بالفرائض الأخرى امتناعًا واستكبارًا أو استهانة وبغضًا، ما دام أنه مقر بوجوبها؛ فكلامه حق لا ريب فيه، وهذا هو مذهب المرجئة المعروف، والاقرار عندهم مجرد القول دون عمل القلب، وهذه هي حقيقة المعركة بين أهل السنة وبينهم.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه [الصلاة وحكم تاركها ص71]: ((وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق: فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة)).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 7/550]: ((وهذا أيضًا مما ينبغي الاعتناء به؛ فإنَّ كثيرًا ممن تكلَّم في مسألة الإيمان، هل تدخل فيه الأعمال؟ وهل هو قول وعمل؟ يظنُّ أنَّ النزاع إنما هو في أعمال الجوارح!!، وأنَّ المراد بالقول قول اللسان؛ وهذا غلط)).
وأشار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى إلى أنَّ علة الكفر في مثل هذه الحالة هي الامتناع فقال [المجموع 7/611]: ((وهذه المسألة لها طرفان؛ أحدهما: في إثبات الكفر الظاهر، والثاني: في إثبات الكفر الباطن، فأما الطرف الثاني فهو مبني على مسألة كون الإيمان قولًا وعملًا كما تقدم. ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنًا إيمانًا ثابتًا في قلبه بأنَّ الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يصوم من رمضان ولا يؤدي لله زكاة ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح، ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار)).
وقال [المجموع 7/616]: ((ولا يتصور في العادة أنَّ رجلًا يكون مؤمنًا بقلبه مقرًا بأنَّ الله أوجب عليه الصلاة ملتزمًا لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به؛ يأمره ولي الأمر بالصلاة فيمتنع حتى يقتل ويكون مع ذلك مؤمنًا في الباطن قط، لا يكون إلا كافرًا، ولو قال: أنا مقر بوجوبها غير أني لا أفعلها، كان هذا القول مع هذه الحال كذبًا منه، كما لو أخذ يلقي المصحف في الحش ويقول: أشهد أنَّ ما فيه كلام الله، أو جعل يقتل نبيًا من الأنبياء ويقول: أشهد أنه رسول الله، ونحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب، فإذا قال: أنا مؤمن بقلبي مع هذه الحال كان كاذبًا فيما أظهره من القول؛ فهذا الموضع ينبغي تدبره. فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أنَّ من قال من الفقهاء أنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يقتل أو يقتل مع إسلامه؛ فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان، وأنَّ الأعمال ليست من الإيمان)).
الثاني: إنْ كان مراده رحمه الله تعالى أنَّ العبد الذي نطق بالشهادتين -ولم يأت بناقض لهما- لا يصح إيمانه إذا ترك عامة الفرائض العملية أو أحدها؛ ولو أقرَّ بها، لأنَّ تركها يدل على انتفاء انقياد القلب، فهذا مذهب له، وبهذا أشار ابن رجب معقِّبًا: ((وظاهر هذا: أنه يكفِّر بترك هذه الفرائض))، لكن وصف مَنْ لا يكفِّر بترك الفرائض بالإرجاء اجتهاد لا يقبل منه.
وليس في هذا تنقص من قدره رحمه الله تعالى، بل العالم يجتهد وقد يخطئ وقد يصيب، وليس بمعصوم، وقد قال بمذهب عدم تكفير تارك الفرائض طائفة من أهل العلم تقدَّم ذكرهم، وهم أئمة أهل السنة والحديث، فكيف يقال فيهم من غلاة المرجئة؟!.
بل هذا القول لم يعرف عن أحد غير إسحاق بن راهويه في وصف قائله بالإرجاء الغالي، وإنما غلاة المرجئة هم الجهمية الذين يقولون إنَّ الإيمان المعرفة، وكذا الكرامية الذين يقولون الإيمان تصديق باللسان ولو لم يؤمن قلبه.
والأغرب من هذا القول؛ أنَّ إسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى يدَّعي إجماع أهل العلم إلى عصره على تكفير تارك الصلاة!، وإنه لم يخالف في تكفير أحد المباني الأربعة إلا المرجئة!!، قال ابن رجب رحمه الله تعالى في نفس الموضع المنقول منه كلمة إسحاق آنفة الذكر [فتح الباري 1/21]: ((وكثير من علماء أهل الحديث يرى تكفير تارك الصلاة، وحكاه إسحاق بن راهويه اجماعًا منهم، حتى إنه جعل قول مَنْ قال لا يكفر بترك هذه الأركان مع الاقرار بها من أقوال المرجئة)).
وقال المروزي في [تعظيم قدر الصلاة 2/929]: ((سمعتُ إسحاق يقول: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا؛ أنَّ تارك الصلاة عمدًا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر. وذهاب الوقت: أن يؤخر الظهر إلى غروب الشمس والمغرب إلى طلوع الفجر)).
أقول: ولا شك أنَّ هذا الإجماع غير ثابت، لأنَّ مذهب الزهري ومالك والشافعي وأئمة غيرهم قبل إسحاق أنهم كانوا لا يكفِّرون تارك الصلاة، وكذا تارك الفرائض الأخرى، فكيف يكون القول بهذا المذهب من أقوال المرجئة؟!
بل وكثير ممن يكفِّرون تارك الصلاة من أهل العلم اليوم، لا يكفِّرونه بترك صلاة واحدة أو صلاتين متعمدًا، وإنما بالترك الكلي!.
وقد نقل الخلاف في تكفير تارك الصلاة الإمام المروزي نفسه الذي سمع هذا القول من إسحاق!؛ قال المروزي [تعظيم قدر الصلاة 2/936]: ((قد حكينا مقالة هؤلاء الذين أكفروا تارك الصلاة متعمدًا، وحكينا جملة ما احتجوا به، وهذا مذهب جمهور أصحاب الحديث. وقد خالفتهم جماعة أخرى عن أصحاب الحديث، فأبوا أن يكفروا تارك الصلاة إلا إن يتركها جحودًا أو إباء واستكبارًا واستنكافًا ومعاندة فحينئذ يكفر، وقال بعضهم: تارك الصلاة كتارك سائر الفرائض من الزكاة وصيام رمضان والحج، وقالوا: الأخبار التى جاءت في الإكفار بترك الصلاة نظير الأخبار التي جاءت في الإكفار بسائر الذنوب)). وقال بعد أن ذكر أدلتهم واحتجاجهم في عدم التكفير بترك الصلاة [المصدر السابق 2/956]: ((وكان ممن ذهب هذا المذهب من علماء أصحاب الحديث: الشافعى رضى الله عنه وأصحابه أبو ثور وغيره وأبو عبيد فى موافقيهم)).
وخلاصة الكلام في قول إسحاق المتقدِّم: أنه إما أن يكون مراده بيان حال المرجئة ومَنْ تأثر بهم أو دخلت عليه شبهتهم ممن لا يكفِّر تارك الفرائض عامة ولو امتنع من القيام بها استكبارًا وعلوًا، أو قال: أسلم لكن لا أقوم بشيء من فرائض الإسلام، أو عرض على السيف وأبى أن يؤد شيئًا من هذه الفرائض، أو كان مستهينًا بها مستهزئًا، أو كان كارهًا لها باغضًا، فهذا مذهب أهل الإرجاء ومَنْ تأثر بمذهبهم حتمًا.
أما إنْ كان مراده أنَّ مجرد ترك الفرائض يكفر العبد به، وأنَّ مَنْ يخالف في ذلك فهو من غلاة المرجئة، فهذا القول مردود بما تقدَّم، والله تعالى أعلم.