لا يُطعن على أهل الحديث والأثر بوقوع اللحن أو بعض الأخطاء اللُغوية والإملائية أحيانًا في كلامهم وكتاباتهم
كتبه الشيخ / أبو عبدالأعلى خالد بن محمد بن عثمان
إن وقوع اللَّحن أو بعض الأخطاء اللُغوية والإملائية أحيانًا في كلام بعض أهل الحديث والأثر وكتاباتهم أمرٌ لا يقدح في علمهم ومنهجهم، كما أخرج الخطيب في الكفاية (1/555) بإسناد صحيح عن أبي عبد الرحمن النسائي أنه قال: "لا يُعاب اللحن على المحدِّثين، فقد كان إسماعيل بن أبي خالد يلحن، وسفيان ومالك بن أنس، وغيرهم من المحدِّثين".
وأخرج أيضًا الخطيب في الكفاية (1/556) بإسناد صحيح عن عبد الملك بن عبد الحميد بن ميمون بن مهران أنه قال: سألت أحمد بن حنبل عن اللحن في الحديث فقال: لا بأس به.
وقال ابن قُتَيبة في تأويل مُختلف الحديث (ص 78) في ردّه على بعض من يطعن في أهل الحديث: "وأما طعنهم عليهم بقلة لمعرفة لما يحملون وكثرة اللحن والتصحيف: فإن الناس لا يتساوون جميعًا في المعرفة والفضل، وليس صنف من الناس إلا وله حشو وشوب.........على أن المنفرد بفن من الفنون لا يُعاب بالزلل في غيره، وليس على المحدِّث عيب أن يزل في الإعراب، ولا على الفقيه أن يزل في الشعر.
وإنما يَجب على كل ذي علم أن يُتقن فنه إذا احتاج الناس إليه فيه وانعقدت له الرئاسة به، وقد يجتمع للواحد علوم كثيرة، والله يؤتي الفضل من يشاء.
وقد يجتمع للواحد علوم كثيرة والله يؤتى الفضل من يشاء.
وقد قيل لأبي حنيفة وكان في الفتيا ولطف النظر واحد زمانه: ما تقول في رجل تناول صخرة فضرب به رأس رجل فقتله أتقيده به؟ فقال: لا ولو رماه بأبا قبيس.
وكان بشر المريسي يقول لجلسائه: قضى الله لكم الحوائج على أحسن الأمور وأهنؤها فنظر قاسم التمار قوما يضحكون من قول بشر فقال هذا كما قال الشاعر:
إن سليمى والله يكلؤها
ضنت بشيء ما كان يرزؤها
وبشر -رأس في الرأي- وقاسم التمار متقدم في أصحاب الكلام واحتجاجه لبشر أعجب من لحن بشر.
وقال بلال لشبيب بن شيبة وهو يستعدي على عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر: أحضرنيه، فقال: قد دعوته فكل ذلك يأبى علي، قال بلال: فالذنب لكل.
ولا أعلم أحدًا من أهل العلم والأدب إلا وقد أُسقط في علمه كالأصمعي وأبي زيد وأبي عبيدة وسيبويه والأخفش والكسائي والفراء وأبي عمرو الشيباني وكالأئمة من قراء القرآن والأئمة من المفسرين؛وقد أخذ الناس على الشعراء في الجاهلية والإسلام الخطأ في المعاني، وفي الإعراب وهم أهل اللُغة وبهم يقع الاحتجاج فهل أصحاب الحديث في سقطهم إلا كصنف من الناس....؟".اهـ
قلت: بل قد وقعت أخطاء لُغوية من بعض كبار علماء اللُغة، فقد عقد ابن جني بابًا في كتابه :"الخصائص" بعنوان: "باب في سقطات العلماء"، ذكر فيه سقطات عجيبة عن عدة من الفحول في علوم اللغة العربية.
ولا يخفى على طلاَّب العلم تخطئة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لسيبويه في ثمانين موضعًا من كتابه "الكتاب".
وجاء في ترجمة الكسائي من السير للذهبي (9/133): "قال الكسائي: صليت بالرشيد فأخطأت في آية ما أخطأ فيها صبي قلت: لعلهم يرجعين، فوالله ما اجترأ الرشيد أن يقول أخطأت، لكن قال: أي لُغة هذه، قلت: يا أمير المؤمنين قد يعثر الجواد، قال: أما هذا فنعم.
وعن سلمة عن الفراء سمعت الكسائي يقول: ربما سبقني لساني باللحن.
وعن خلف بن هشام أن الكسائي قرأ على المنبر (أنا أكثر منك مالا) بالنصب فسألوه عن العلة فثرت في وجوههم فمحوه فقال لي: يا خلف من يسلم من اللحن.
وعن الفراء قال إنما تعلم الكسائي النحو علي كبر ولزم معاذ الهراء مدة ثم خرج إلى الخليل".اهـ
وإليك هذه الآثار من كتاب العلل ومعرفة الرجال من رواية عبد الله بن أحمد عن أبيه:
(646) حدثني أبي قال حدثنا هشيم قال: كان إياس بن معاوية كثير اللحن فقال له سفيان بن حسين: صاحبنا لو أنك نظرت في هذه العربية قال: فكنت ربما لقنته الحرف والشيء قال: فلقنته فقال: لقد ضيقت على منطقي لا حاجة لي فيه.
647 حدثني أبي قال حدثنا هشيم قال: وكان إسماعيل بن أبي خالد وقد لقي أصحاب رسول الله e فاحش اللحن قال كان يقول حدثني فلان عن أبوه.
648 حدثني أبي قال حدثنا هشيم عن خالد بن سلمة المخزومي قال: لقد رأيت إبراهيم النخعي فرأيت رجلاً لحانًا.
649 حدثني أبي قال حدثنا يحيى بن آدم قال حدثنا أبو بكر عن عاصم قال: كان إبراهيم رجل صدق ولو سمعته يقرأ قلت ما يُحسن هذا شيئًا.
وقال العلامة ربيع بن هادي -سلمه الله- في "بيان فساد المعيار": "وفي المقابل فقد بلغ بهم –أي بالحزبيين- البغض لحملة لواء السنة والمنهج السلفي أن يجعلوا من توافه أخطائهم التي لا يجرح بها أحد من المنتمين إلى الإسلام سنيهم وبدعيهم أن يجعلوا منها العظائم المسقطة والمدمرة..".
وقال: " لقد جعلوا من الأخطاء المطبعية وما شاكلها على قلتها من أعظم العظائم وجسام المسقطات بعد عجزهم عن وجود أقل ما يجرح به أهل السنة وأئمتهم المعتبرون فيما يرفع ويخفض فما يخفض عند أهل السنة يرفع ويعلي عند هؤلاء، وما يرفع عند أهل السنة يسقط ويحط عند هؤلاء...".
وقال أيضًا: " وهذا المنهج الجديد للإسقاط بالأخطاء المطبعية ونحوها مما لا يسلم منه مؤلف أو محقق مهما كان صغر حجم كتابه مُحققاً كان أو مؤلفاً، كمثل هذا الكتيب الذي تعالم فيه صاحبه أو أصحابه ، فمنهج الموازنات يريدون أن يحموا به أهل البدع الكبرى مهما كثرت وعظمت شناعتها ، وفقه الواقع وهذا المنهج الجديد لإسقاط علماء أهل السنة ودعاتهم؛ بل إسقاط منهجهم".اهـ
قلت: بل كان بعض أهل الأهواء يقوَّمون اللحن الذي يقع عند بعض المحدَّثين مثلما جاء في تاريخ ابن معين رواية الدوري (4/247)، قال يحيى: "وقرط بن حريث قد كتبت أنا عنه وليس به بأس ولكن كان قدريًّا أتيناه إلى منزله فقال لنا: نزهوا الله عن هذه المعاصي فدعانا إلى القدر، فخرجت وكان مولى لباهلة قال يحيى: وكان قرط هذا يُقوِّم لرجل من المحدثين حديثه، يعني يحيى أنه كان يخرج منه اللحن".
وإنك لتعجب من بعض المتصدرين للدعوة في الآونة الأخيرة ممن ينهون وينفرون عن بعض الأفاضل من طلبة العلم السلفيين لمجرد وقوع بعض الأخطاء اللُغوية في كلامهم وكتاباتهم فيعتبر هذا وحده قادحًا فيهم يمنع التلقي عنهم، وإليهم نُهدي ما نقله السخاوي في فتح المغيث (2/260) عن السلفي حيث قال: "وإليهم أشار السلفي لما اجتمع بأبي حفص عمر بن يوسف بن محمد بن الحذاء القيسي الصقلي بالثغر والتمس منه السماع وتعلَّل بأمور عمدته فيها التحرز من الوقوع في الكذب لأنه لم يتقدم له قراءة في العربية بقوله وقد كان في الرواة علىهذا الوضع قوم واحتج برواياتهم في الصحاح، ولا يجوز تخطئتهم وتخطئة من أخذ عنهم"، ثم قال: "وقال السلفي أيضا في ترجمة محمد بن عبد عبيد الله بن محمد عبيد الله بن دكاش الحنبلي: إنه كان قارئ بغداد والمستملي بها على الشيوخ وهو في نفسه ثقة كثير السماع ولم يكن له أنس بالعربية، وكان يلحن لحن أصحاب الحديث".اهـ
قلت: وليست هذه بالطبع دعوة إلى اللحن أو إلى تعمُّد مخالفة قواعد اللُغة والإملاء، أو أن يهمل طالب علم الحديث دراسة اللُغة والنحو، ولكن ينبغي أن لا يُنكر على واحد من أهل الحديث وقوع نذر يسير من الأخطاء اللُغوية أو الإملائية في كتاباته مما لا يصل إلى حدِّ اللحن الفاحش الذي يُحيل المعنى بالكلية، مثل أن يرفع المفعول به، أوينصب الفاعل، ونحو هذا مما هو ظاهر لا يخفى على أحد، كما قال الخطيب عن حكم تغيير اللحن الذي يقع من بعض الرواة في الأحاديث: "إذا كان اللحن يحيل المعنى فلابد من تغييره" ثم أردف بهذا المثال: "ألا ترى لو أن المحدِّث قال: لا يؤم المسافرَ المقيمُ، فنصب المسافر ورفع المقيم كان قد أحال المعنى فلا يلزم اتباع لفظه".
بل حتى لو وقع منه اللحن الفاحش أحيانًا في كلامه لا يعني هذا إسقاطه بالكليَّة، ما دام على عقيدة ومنهج السلف.
ومن المعلوم أن أهل الأهواء من المعتزلة والمتكلمين ونحوهم كانوا يمدحون أنفسهم بأنهم أصحاب لُغة، وينتقصون أصحاب الحديث لأنهم ليسوا مثلهم في إجادة المباحث اللُغوية، وكانوا يستغلون تبحرهم في دهاليز اللُغة والمنطق سلاحًا لتحريف الكلم عن مواضعه سواء في القرآن أو الآثار أو كلام أهل الحديث، فعلوم العربية هي علوم موضوعة لخدمة بقية علوم الشريعة فهي مقصودة لغيرها لا لذاتها، كما قال الذهبي –رحمه الله- في "زغل العلم" (ص19): "النحويون لا بأس بهم، وعلمهم حسن مُحتاج إليه، لكن النحوي إذا أمعن في العربية، وعري عن علم الكتاب والسنة بقي فارغًا بطالاً لعَّابًا، ولا يسأله الله والحالة هذه عن علمه في الآخرة، بل هو كصنعة من الصنائع كالطب والحساب والهندسة لا يُثاب عليها ولا يعاقب، إذا لم يتكبر على الناس ولم يتحامق عليهم، واتقى الله تعالى وصان نفسه".اهـ
قلت: فالذي يطعن على واحد من أصحاب الحديث والأثر بأنه ضعيف في اللُغة فقد سلك مسلك أهل الأهواء.
وعلى الجانب الآخر، لا يُرفع المرء إلى مرتبة العلماء الكبار لكونه فقط يجيد اللُغة العربية إجادة تامة، فإن هذه الإجادة للُغة لا تنفعه إذا صدر منه ما يُخالف العقيدة أو المنهج؛ فقد عجبت ممن أراد أن يمدح أحد طلبة العلم، فقال: إنه لا يكاد يلحن في كلامه، فقلت: هذا وحده لا يُمدح به طالب العلم، بل يُمدح بأنه على عقيدة ومنهج السلف أصحاب الحديث والأثر، ثم إذا تم تعديد مناقبه الأخرى فلا بأس أن يُشار إلى كونه لا يلحن، مع اعتبار هذه المنقبة فرعًا لا أصلاً.
ويُشبه هذا: المدح بسعة الحفظ، فهناك من يمدح فلانًا بأنه يحفظ الكتب الستة، أو كذا وكذا من كتب السنة، ثم إذا خبرت فلانًا وجدته ذا خلل في عقيدته ومنهجه، فصدق من قال عن مثل هذا الصنف الذي يعتني بالحفظ دون الفهم وإصلاح العقيدة: "نُسخة زائدة".
وكذلك من يتشدق بأنه يحفظ القرآن كله بالعشر قراءات، ويعتبر هذا هو منتهى العلم، وصدق شيخ الإسلام –رحمه الله- حيث قال كما في مجموع الفتاوى (15/87): "والقرآن إنما مدح من كان على بينة من ربه فهو على هدى ونور وبصيرة سواء حفظ القرآن أو لم يحفظه".
وهذا أيضًا لا يُفهم منه التقليل من شأن الحفظ، لكن المقصود أن الحكم على فلان بأنه عالم متمكن لا يكون بناء على قوة حفظه أو إحسانه للُغة أو جمال خطِّه؛ إنما يكون بناء على سلامة عقيدته ومنهجه وإجادته للعلم الذي يُدِّرسُهُ، ثم إذا جمع إلى هذا قوة الحفظ، وإجادة اللُّغة فقد ازداد رُقيـًّا في علمه.