الأقسام الشائعة



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فقد أكثر عماد فراج من المقالات التي يطعن فيها على شيخ الإسلام ابن تيمية، والتي يظن أن فيها من الحجج ما لا يمكن رده، وما علم هذا الحدادي المجرم أن مقالاته تدل على سوء أدبه، ومدى تعالمه، بل ومدى جهله، وكأنه يتدرب على الفجور في الخصومة، وعلى إسقاط الأئمة بجعل شيخ الإسلام رحمه الله هدفاً له، وغرضاً يوجه إليه سهامه، ويظن أنه بذلك يتعلم الرماية على من هو أجل وأعظم من شيخ الإسلام ابن تيمية من أئمة الإسلام.
ومما يؤكد ذلك أن مقالات عماد فراج القديمة تختلف اختلافا جذرياً عن الجديدة، فمن احترام شيخ الإسلام، إلى تخطئته وأن ذلك لا يقلل من قيمته، إلى التهوين من منزلته في الأمة، إلى التشكيك في علمه، إلى التشكيك في دينه، إلى تضليله وتبديعه، ثم إلى تكفيره ووصفه بأقبح الأوصاف.
وهذا الاضطراب والتدرج يدل على أحد أمرين: 
إما أنه جاهل، سريع التأثر بالشبهات، حتى وصل إلى هذه المرحلة في التكفير والضلال.
أو إنه دسيسة، يسلك مسلك الباطنية في خداع أهل السنة، ويتدرج للناس في ترويج باطله.
وهنا احتمال ثالث: أن يكون جاهلاً، وتأثر بشبهات غيره، ثم دب الشك والريب إلى قلبه فسلك مسلك الباطنية في التدرج في ترويج بدعته النكراء.
ومن مقالات عماد فراج في الطعن والتنقص من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «1- تبديع ابن تيمية.
2- ابن تيمية ليس نبي السلفية.
3- عقيدة ابن تيمية (الجزء الأول).
4- عقيدة ابن تيمية (الجزء الثاني).
5- عقيدة ابن تيمية (الجزء الثالث).
6- حقيقة موقف ابن تيمية من ابن مخلوف.
7- القول الذي ابتدعه ابن تيمية بأن أحمد لم يكفر الجهمية.
8- موقف ابن تيمية من تكفير المعين.
9- بخصوص كلام ابن تيمية في تكفير الشافعي في حفص الفرد.
10- ابن تيمية لا يكفر الرافضة.
11- ابن تيمية مرة أخرى
12- أنا لا أعرف ابن تيمية».
وهذه المقالات بعد تبديعه لشيخ الإسلام، فهي مشتملة على مرحلتين عند هذا الفراج، وهما مرحلة التبديع، ثم مرحلة التكفير.
وتفنيد شبهه سيكون مرتكزاً على ما ذكره من شبهات في مقاله: «أنا لا أعرف ابن تيمية»، مع ما يتيسر نقله عنه من مقالاته الأخرى التي يكرر فيها شبهاته وألاعيبه.


فصل
كشف الشبهات التي ألقاها عماد فراج لتكفير وتضليل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
لقد تأملت ما ذكره الحدادي عماد فراج من اتهامات مكفرات ومضللات لشيخ الإسلام ابن تيمية حسب ادعائه فوجدتها على سبعة أنواع من الشبهات التي يلبس بها على الناس، ويتخذها ذريعة لتكفير علم من أعلام الأمة الإسلامية، وسأكشف هذه الشبهات –بإذن الله تعالى- ليعرف الناس أنها شبهات داحضة، وأنها محض تلبيس من الشيطان.
كشف شبهات عماد فراج حول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
أما الشبهة الأولى: المتعلقة بقضية العذر بالجهل، وتكفيره لشيخ الإسلام ابن تيمية لكونه افترى عليه أنه لا يكفر عباد القبور، وأنه لا يكفر أحداً، مع كون الواقع خلاف زعمه وافترائه، حيث إن شيخ الإسلام يكفر عباد القبور، ويكفر بعض المعينين.
وقد اشترط علماء السنة إقامة الحجة في تكفير المعين لا سيما في الأمور الخفية في ذاتها، أو بسبب عارض الجهل، وكثرة من يشبِّه على الناس بذكر نصوص من الكتاب والسنة حتى صار الأمر الواضح الجلي خفياً عند كثير من الناس، وكذلك من نشأ ببادية بعيدة، أو حديث عهد بإسلام ليس عنده علم بكثير من الأمور الشرعية الواضحة، فبسبب هذا الخفاء الأصلي أو المكتسب من المؤثرات الخارجية قرر أئمة الإسلام شرط إقامة الحجة في تكفير المعين، ولم يكونوا بذلك معممين ذلك الخفاء في حق كل أحد حتى يتهم من يقرر ذلك بأنه لا يكفر أحدا.
وهذا الشرط ليس من عند أنفسهم، بل مما دل عليه الكتاب والسنة، وتكاثرت به الآثار السلفية.
وقد استوعب شيخنا العلامة الشيخ ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله ورعاه هذه القضية، وكشف هذه الشبهة التي عند عماد فراج بما يجعلني أكتفي بما ذكره من الأدلة والنقولات عن التفصيل في كشف هذه الشبهة، بل أكتفي بالإحالة إلى المقال الذي كنت قد أشرت إليه سابقاً، مع ما كتبه شيخنا العلامة محمد بن صالح بن عثيمين في هذه المسألة من فتوى مفصلة ([1]).
كشف الشبهة الثانية وهي تهمة ادعاء علم الغيب(وفيه نقل واحد).
فقد زعم عماد فراج أنه يكفر ويضلل: من يقول: كتب الله في اللوح المحفوظ أنهم مهزومون في هذه الكرة. أي: التتر.
والجواب من وجوه: 
الوجه الأول: أن هذا اللفظ المنقول عن شيخ الإسلام رحمه الله ليس فيه محظور شرعي، ولم يبين عماد فراج وجه مخالفته للشرع، بله إيجابه لتكفير وتضليل شيخ الإسلام عنده.
فالعبارة المنقولة مجملة، والتكفير بالإجمالات، ونشرها بين الناس بهذه الإجمالات مع وصف صاحبها بالكفر والضلال ليس من منهج أهل السنة.
فالإخبار عما في اللوح المحفوظ إن كان بعد وقوع المقدور فهو حق، يجب الإيمان به، ومن أنكره فهو قدري، حيث إن القدرية ينكرون كتابة المقدور.
وأما الإخبار عما في اللوح المحفوظ قبل وقوع المقدور فهو نوعان: 
النوع الأول: حق وممكن، ولم يمنع منه شرع ولا عقل. والثاني: باطل مخالف للشرع ولا يشهد له عقل. وسيأتي البيان.
الوجه الثاني: أن تلك العبارة لم أجدها في شيء من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وإنما نقلها العلامة ابن القيم، والحافظ ابن كثير، وهما إمامان من خيار أعلام السنة، إلا أن عماد فراج يكفرهما، فمن العجب أن يستند في تكفيره لعالم من علماء السنة بنقل من يعتقد عماد فراج كفره، وهذا مخالف للشرع!
فبدعة تكفيره لشيخ الإسلام جعلته يقبل أي نقل عنه ولو كان هو لا يأتمن ناقله، ولا يعتقد إسلامه، وهذا من ضلاله وتناقضه.
الوجه الثالث: لفظ العبارة المنقولة.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 458) : «ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أمورا عجيبة. وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم. ووقائع فراسته تستدعي سفرا ضخما.
أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة، وأن جيوش المسلمين تكسر، وأن دمشق لا يكون بها قتل عام ولا سبي عام، وأن كلب الجيش وحدته في الأموال. وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة.
ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام: أن الدائرة والهزيمة عليهم. وأن الظفر والنصر للمسلمين. وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا. فيقال له: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا. وسمعته يقول ذلك. قال: فلما أكثروا علي. قلت: لا تكثروا. كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ: أنهم مهزومون في هذه الكرة، وأن النصر لجيوش الإسلام. قال: وأطمعت بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو.
وكانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر».
وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية(17/ 737) : «وخرج الشيخ تقي الدين ابن تيمية، رحمه الله تعالى، في مستهل هذا الشهر، وكان يوم السبت، إلى نائب الشام وعساكره بالمرج، فثبتهم وقوى جأشهم، وطيب قلوبهم، ووعدهم النصر والظفر على الأعداء، وتلا قوله تعالى: {ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور} [الحج: 60]».
فتبين من نقل الإمام ابن القيم رحمه الله أنه ذكر تلك القصة مع قصص أخرى ليذكر أمثلة على قوة الفراسة، بعد أن كان بين معناها، وأنواعها، وليس ذلك من العرافة ولا من الكهانة ولا من ادعاء علم الغيب.
ويتبين من نقل الحافظ ابن كثير أن جزم شيخ الإسلام ابن تيمية بالنصر ليس عن ادعاء علم الغيب، ولكنْ بناءً على أدلة تأوَّلها من القرآن الكريم، وهذا وضحه شيخ الإسلام وبينه في بعض كتاباته، فهو مبني على غلبة الظن، ودلالة الدليل.
[فهذا الإمام ابن القيم رحمه الله يردُّ جزمَ شيخ الإسلام بنصر المسلمين، وهزيمة التتار إلى الفراسة لا على الاطلاع على ما في اللوح المحفوظ.
والفراسة مذكورة في القرآن الكريم، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}.
هذا إلى جانب الإيمان بوعود الله بالنصر لحزبه المؤمنين الصادقين، وإلى جانب القرائن الموجودة التي تدل على أنه سيكون النصر للمؤمنين، وأن الهزيمة والدائرة على الكافرين المعتدين] ([2])
الوجه الرابع: أن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يقل إنه يعلم ما في اللوح المحفوظ، أو إنه اطلع عليه، ولا في نقل العلامة ابن القيم ما يفيد ذلك، وهو رحمه الله ممن اشتهر باتباع منهج السلف، ومن المحاربين لأهل الأهواء والبدع، وعنده مؤلفات كثيرة جداً في الدعوة إلى الدين الخالص، وفي تقرير التوحيد، وإبطال الشرك، ونصرة السنة، وقمع البدعة ما لا ينكره عاقل، وشهد له من عاصره بل ومن جاء بعده من أعلام السنة بصحة العقيدة، وسلامة الظاهر والباطن، ولهج أهل السنة بالثناء عليه، ومن الأمور التي حاربها شيخ الإسلام: الشرك بجميع مظاهره، وألف كتاب التوسل والوسيلة، والرد على البكري، والرد على الإخنائي وهي في تقرير توحيد العبادة والنهي عن الشرك، ودحض شبهات المشركين، وألَّف كتباً كثيرة في الرد على المتكلمين وأهل الفلسفة والذين عطلوا صفات الرب عز وجل، ومن تلك الكتب: بغية المرتاد، والحموية، والتدمرية، وشرح الأصبهانية، و«الرد على المنطقيين»، ودرء تعارض العقل والنقل، وبيان تلبيس الجهمية.
وكذلك ألف في شبهات الرافضة كتابه العظيم «منهاج السنة النبوية والرد على الرافضة والقدرية».
ورد على الصوفية والباطنية في كتابات عديدة ضمن مجموع الفتاوى، وكذلك في كتابه «الرد على الشاذلي في حزبَيه».
وألف في الرد على النصارى كتابه «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح».
وله كتب كثيرة في الفقه والحديث والأصول والتفسير.
وعرف بجهاد أعداء الله، وكانت له جهود عظيمة في التصدي للتتر والمغول ومن كان معهم من النصارى والباطنية.
وكان سلفياً متجردا للحق، ينصر الدليل وينحاز له، وكانت لا تأخذه في الله لومة لائم.
فمثل هذا في صفاته ومؤلفاته بعيد كل البعد عن حال الدجال، وحال المتصوفة والخرافيين الذي يدعون علم الغيب، ويتألكون بأكاذيبهم وعرافتهم وكهانتهم.
ولم يُذكَر عن شيخ الإسلام أنه كان كاهناً أو عرافاً أو ساحراً، ولا ذكر عنه الدفاع عنهم، ولا الاعتذار لهم، بل كان خصيمهم، وكان يناظرهم ويبين للناس ضلالهم واحتيالهم.
ومن تأمل حال السحرة والكهنة والعرافين ومدعي علم الغيب رأى فيهم الكذب والفساد والكذب والاحتيال والأحوال الشيطانية التي بينها شيخ الإسلام في كتابه «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان»، وبما بينه غيره من أئمة السنة قديماً وحديثاً.
وكل هذا يوجب على المنصف المتجرد إبطال فرية عماد فراج التي نسبها لشيخ الإسلام رحمه الله من أنه ادعى علم الغيب وعليه فقد كفره وضلله!
الوجه الخامس:أن شيخ الإسلام رحمه الله قد حذر من أهل الكهانة والعرافة ومن دخل في التصوف والخلوات حتى صار المتصوف يتخيل أنه يطلع على اللوح المفوظ، ويعلم الغيبيات، وأنكر عليهم إنكاراً شديداً، مما يبين أنه لم يكن لينهى عن شيء ثم يأتيه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على المنطقيين(ص/ 474) : «فان قيل هم يذكرون لمعرفة النبي بالغيب سببا آخر وهو أنهم يقولون إن الحوادث التي في الأرض تعلمها النفس الفلكية ويسميها من أراد الجمع بين الفلسفة والشريعة باللوح المحفوظ كما يوجد في كلام أبى حامد ونحوه وهذا فاسد فان اللوح المحفوظ الذي وردت به الشريعة «كتب الله فيه مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، واللوح المحفوظ لا يطلع عليه غير الله».
وقال رحمه الله في بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية(ص/ 327) : «ولم يقل أحد من علماء المسلمين أن أرواح كل من رأى مناما تطلع على اللوح المحفوظ، بل قد جاء في الحديث أنه لاينظر فيه غير الله عز وجل في حديث أبي الدرداء».
وقال رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل(9/ 398) : «فإن ابن سينا وأمثاله يدعون أن ما يحصل للنفوس البشرية من العلم والإنذارات والمنامات، إنما هو فيض العقل الفعال والنفس الفلكية، وإذا أرادوا أن يجمعوا بين الشريعة والفلسفة، قالوا: إن النفس الفلكية هي اللوح المحفوظ، كما يوجد مثل ذلك في كلام أبي حامد في كتاب الإحياء والمضنون وغير ذلك من كتبه.
وكما يوجد في كلام من سلك سبيله من الشيوخ المتفلسفة المتصوفة، يذكرون اللوح المحفوظ، ومرادهم به النفس الفلكية، ويدَّعونَ أن العارف قد يقرأ ما في اللوح المحفوظ ويعلم ما فيه.
ومن علم دين الإسلام، الذي بعث الله به رسله، علم أن هذا من أبعد الأمور عن دين الإسلام».
والذي قاله شيخ الإسلام رحمه الله هو: « كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ: أنهم مهزومون في هذه الكرة، وأن النصر لجيوش الإسلام». فهو قد غلب في ظنه وهجم على نفسه بما استدل به من نصوص شرعية أن التتر سيهزمون، وسينتصر المسلمون، ومعلوم أن ما سيقع فإنه لا يقع إلا وقد كتب في اللوح المحفوظ، فهذا كله من فراسته، ومن حسن ظنه بربه عز وجل.
الوجه السادس: لقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في عدة مواضع من كتبه ما يتعلق بجهاد التتر، وأطال النفس في بيان ضلالهم، ووجوب جهادهم، وكان له دور بارز في حث سلطان المسلمين وجنوده على مواجهة التتر.
وكانت أول قدمة للتتر في ذلك الوقت سنة 699هـ، وكان شيخ الإسلام رحمه الله يعلم أخبار البلاد، ووصلته أخبار حركة التتر إلى بلاد الشام وما هم عازمين عليه من الغزو، وما حصل من التفكك والوهن بالمسلمين لوجود اختلاف في الدولة، وتمكن الأمراء المحيطين بالسلطان محمد الناصر بن المنصور قلاوون الألفي بأموره، مع وجود من ينافسهم على ذلك مما أدى إلى الاضطراب، فبما عنده من علم بالشرع، ومعرفة بأسباب النصر، وأسباب الهزيمة، وبما يعلمه تماماً من الأحداث الجارية، لا سيما أخبار الحروب ومكائد العدو، أخبر الناس بما يراه من قرائن محيطة بالواقع أن التتر لن يستطيع الجيش مواجهته، وأنهم سينتصرون لوجود الفرقة والتنازع في جيش الدولة الإسلامية، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [الأنفال: 46]، ولكن حال الناس وتحصيناتهم تحول من حصول استئصال عام، وأن معظم ما يكون من جيش العدو هو الحرص على النهب وسرقة الأموال.
ثم لما رجع التتر بجيوشهم عام 702هـ ورأى من قوة جيش المسلمين وائتلافهم، وأن أسباب النصر قد لاحت، وأن التتر كانوا من قبل قد طلبوا الصلح رغم انتصارهم السابق فعلم ما عندهم من الضعف والتفرق، فبما يعلمه شيخ الإسلام من توفر أسباب النصر، وما في العدو المتحزب من تفرق واختلاف، وما كان يتتبعه من أخبارهم وأحوالهم جزم بأنهم مهزومون ثقة بالله، وغلبة للظن، حتى كأنه يرى النصر متحققا أمامه فكان يحلف عليه أيماناً كثيرة، بل صرح بحصول النصر، وتكلم بكلام يزيدهم طمأنينة، وأن ذلك مما هو مكتوب في اللوح المحفوظ أي لغلبة ظنه بتحقق وقوعه، ولما تفرسه بجيش المسلمين، وما تفرسه بجيش التتر.
[وكان شيخ الإسلام رحمه الله ربَّى شباباً على التوحيد والسنة ليواجه بهم التتار، ولما تم له ذلك جزم بحصول النصر؛ بناء على النصوص القرآنية، مثل قوله تعالى: { وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } [الفتح: 22، 23]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [محمد: 7]، وقوله عز وجل: { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56].
فبناء على هذه النصوص وأمثالها، وبناء على من عنده من جند الله المستحق للنصر جزم بحصول النصر لجند الله، لا على ادعاء علم الغيب والاطلاع على ما في اللوح المحفوظ، ولكن عماد فراج الجهول، الذي يجهل البدهيات أملى عليه الشيطان أن شيخ الإسلام ادعى الاطلاع على ما في اللوح المحفوظ]([3]).
وفي المجلد الثامن والعشرين من مجموع الفتاوى(ص/410-423) رسالة شيخ الإسلام للمسلمين بالحث على الجهاد، والوقوف في وجه التتر.
وفي مجموع الفتاوى(28/ 424-467) كتب شيخ الإسلام رسالة فيها تحريض على جهاد العدو، وفيها تأملات في سورة الأحزاب، ومقارنة بين الواقع وبين ما حصل للمسلمين مع عدوهم زمن أحد، وزمن الأحزاب، مما يجعله يتيقن بحصول النصر في تلك السنة، والذي تحقق في معركة شقحب، وكانت سنة 702هـ.
وفيه (28/ 509-543) جواب عن شرعية قتتال التتار، وذكر فيه استقراء لأحوال الأمة الإسلامية، وما يوجد من دول متعددة في مناطق مختلفة فيهم ضعف، وأن بيضة أهل الإسلام في مصر والشام.
قال رحمه الله(28/531) : «مع أنه والعياذ بالله لو استولى هؤلاء المحاربون لله ورسوله المحادون لله ورسوله المعادون لله ورسوله على أرض الشام ومصر في مثل هذا الوقت لأفضى ذلك إلى زوال دين الإسلام ودروس شرائعه. أما الطائفة بالشام ومصر ونحوهما فهم في هذا الوقت المقاتلون عن دين الإسلام وهم من أحق الناس دخولا في الطائفة المنصورة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الأحاديث الصحيحة المستفيضة عنه: {لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة} وفي رواية لمسلم: {لا يزال أهل الغرب} والنبي صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا الكلام بمدينته النبوية فغربه ما يغرب عنها وشرقه ما يشرق عنها» إلى أن قال: «ومن يتدبر أحوال العالم في هذا الوقت يعلم أن هذه الطائفة هي أقوم الطوائف بدين الإسلام: علما وعملا وجهادا عن شرق الأرض وغربها؛ فإنهم هم الذين يقاتلون أهل الشوكة العظيمة من المشركين وأهل الكتاب ومغازيهم مع النصارى ومع المشركين من الترك ومع الزنادقة المنافقين من الداخلين في الرافضة وغيرهم كالإسماعيلية ونحوهم من القرامطة معروفة: معلومة قديما وحديثا. والعز الذي للمسلمين بمشارق الأرض ومغاربها هو بعزهم ولهذا لما هزموا سنة تسع وتسعين وستمائة دخل على أهل الإسلام من الذل والمصيبة بمشارق الأرض ومغاربها ما لا يعلمه إلا الله. والحكايات في ذلك كثيرة ليس هذا موضعها. وذلك أن سكان اليمن في هذا الوقت ضعاف عاجزون عن الجهاد أو مضيعون له؛ وهم مطيعون لمن ملك هذه البلاد حتى ذكروا أنهم أرسلوا بالسمع والطاعة لهؤلاء وملك المشركين لما جاء إلى حلب جرى بها من القتل ما جرى. وأما سكان الحجاز فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة وفيهم من البدع والضلال والفجور ما لا يعلمه إلا الله وأهل الإيمان والدين فيهم مستضعفون عاجزون؛ وإنما تكون القوة والعزة في هذا الوقت لغير أهل الإسلام بهذه البلاد فلو ذلت هذه الطائفة - والعياذ بالله تعالى - لكان المؤمنون بالحجاز من أذل الناس؛ لا سيما وقد غلب فيهم الرفض وملك هؤلاء التتار المحاربين لله ورسوله الآن مرفوض فلو غلبوا لفسد الحجاز بالكلية. وأما بلاد إفريقية فأعرابها غالبون عليها وهم من شر الخلق؛ بل هم مستحقون للجهاد والغزو. وأما المغرب الأقصى فمع استيلاء الإفرنج على أكثر بلادهم لا يقومون بجهاد النصارى هناك؛ بل في عسكرهم من النصارى الذين يحملون الصلبان خلق عظيم. لو استولى التتار على هذه البلاد لكان أهل المغرب معهم من أذل الناس لا سيما والنصارى تدخل مع التتار فيصيرون حزبا على أهل المغرب. فهذا وغيره مما يبين أن هذه العصابة التي بالشام ومصر في هذا الوقت هم كتيبة الإسلام وعزهم عز الإسلام وذلهم ذل الإسلام. فلو استولى عليهم التتار لم يبق للإسلام عز ولا كلمة عالية ولا طائفة ظاهرة عالية يخافها أهل الأرض تقاتل عنه».
الوجه السابع: أن العلامة ابن القيم رحمه الله ذكر تلك الأمور عن شيخ الإسلام ابن تيمية مدللاً على فراسته، وليس على ادعائه علم الغيب!
قال الله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)}.
قال الحافظ ابن كثير: «أي: من نظر بعين الفراسة، والتوسّم فيهم، كيف غير الله تلك البلاد وأهلها؟ وكيف جعلها بعد ما كانت آهِلَةً عامرةً، هالكةً غامرةً؟
قال - صلى الله عليه وسلم -: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» ([4]). ثم قرأ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}»
والكلام على الفراسة يطول، وقد كتب العلامة ابن القيم كتاب «الطرق الحكمية» وهو في السياسة الشرعية، وسمي بـ «كتاب الفراسة»، لكون القضاء والإمارة تحتاج إلى زكاء وذكاء وتفرُّس.
وقد فصل العلامة ابن القيم في كتاب «مدارج السالكين» ما يتعلق بالفراسة، فيرجع إليه، وينظر مقدار تحقق ذلك في شيخ الإسلام رحمه الله.
وقال الإمام محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله: «الغيب الآن هذا السؤال الحقيقة مهم جداً .. لنعرف ما هو الفرق بين العلم بالغيب والفراسة التي يصيب بها أحياناً ويتحدث بها بعض كتب السنة الصحيحة من جهة ويغالي فيها الذين ينتمون إلى التصوف من جهة أخرى، أظنكم جميعاً تعلمون قوله عليه الصلاة والسلام: «لقد كان في أمتي محدَّثون لقد كان فيمن قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أمتي محدَّث فعمر»، ومعنى محدَّثون: أي: ملهمون الإلهام ليس هو الوحي لكنه يلتقي مع الوحي أحياناً من حيث اكتشاف ما سيقع ظناً وليس يقيناً يعني: الذي ألهم بشيء لا يستطيع أن يقول: إن هذا سيكون حتماً إلا ما ندر جداً .. جداً وهو يعترف بأنه ليس معصوماً، أما الوحي فهو يقطع بها كما هو حي تماماً يقطع بأن هذا الذي أوحاه الله إليه هو من وحي السماء لا يدخله شك ولا لبس ولا ريب، فالآن لقد كان فيمن قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر ما هو معنى مُحدَّثون؟ أي: ملهمون، فما هو الإلهام؟ أنتم تعرفون أن عمر بن الخطاب تحدث بأمور نزل القرآن على وفق ما تحدث به كقوله مثلاً: لو حجبت نساءك فأنزل الله آية الحجاب، وقوله مثلاً: لو اتخذنا .. لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى إلى آخره، من هذا القبيل ما رواه الإمام مالك في "الموطأ" بالسند الصحيح أنه عن أبي بكر الصديق أنه قال: لابنته عائشة في أرض تتعلق بإرث أولاد أبي بكر رضي الله عنه، قال فيما أذكر الآن: أنه هذه لأختك والأخت هي كانت لا تزال جنيناً في بطن زوج أبي بكر الصديق، قالت: وأين أختي؟ قالت: هي التي في بطن فلانة،
وفعلاً رزقت بنتاً فكانت ترث مع أختها تلك الأرض بوصية من أبي بكر الصديق .. في هذا الإلهام وهذه القصة في «الموطأ» وبالسند الصحيح الذي لا إشكال فيه؛ لأنه في الموطأ يوجد روايات مقطوعات وبلاغات كثير منها لا يصح وإن كانت موصولة بعضها في كتب أخرى، أما هذه القصة فهي صحيحة.
إذا عرفنا هذه الحقيقة الفرق بين الوحي وبين الإلهام يمكننا نحن الآن أن ندخل في صلب الإجابة إلى رجل عالم مثل ابن سيرين فسر الرؤية التي قص عليه قاصٌّ ما أو رائي ما فهو لا يستطيع أن يقول: أنها ستكون كذلك، فإذاً هذا ليس من باب الاطلاع على الغيب إطلاقاً وإنما هو الظن والظن قد يصيب وقد يخطئ وهذا يقع من العلماء بمناسبات كثيرة وكثيرة جداً حتى أن بعض مشايخ الطرق يستغلون هذه الوقائع ويوهمون الناس أنها كشوفات وأنهم يطلعون على ما في صدور الناس، والحقيقة أنه ليس شيء من ذلك إنما هي الفراسة، فإذاً وسأقص بعض ما وقع لي أنا شخصياً مع كشف السر لكي لا تنغشوا ببعض ما قد تسمعون من بعض الناس، إذا تبين أن ابن سيرين وأمثاله ممن قد يوهبون علم تأويل الرؤيا فذلك ليس من باب الاطلاع على الغيب؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله بنص القرآن الكريم ثم كما قال في القرآن الكريم أيضاً: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (الجن: 26، 27)، الغيب: هو الأمر الذي يقطع به الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أن الله عز وجل أوحى، أما العالم ذو الفراسة أو مفسر المنام فهذا لم يطلع على الغيب فقد يصيب وقد يخطئ أنا أقص لكم بعض القصص التي وقعت لي وهي أولاً: لا تدل على صلاح ولا تدل على طلاح، وإنما تدل أنه هذا المسؤول في عنده شيء من العلم وفي عنده شيء من اليقظة فأصاب الهدف، فلو أراد أن يغش هؤلاء الناس سيقول لهم: هذه كشوفات وأنتم تنكرونها.
أنا أذكر جيداً أنني كنت في دكاني أُصَلّح الساعات لما دخل علي أحد إخوانا من الفلسطينيين الذين كانوا فروا من ظلم اليهود إلى دمشق وتعرفوا على الدعوى السلفية والحمد لله.
جاءني يوماً ومعه رجل فلاح وأنا أعلم مسبقاً وهنا يبدأ موضوع الفراسة أعلم مسبقاً أن هذا أستاذ في بعض القرى التي حول بلدة حمص هناك في الطريق إلى حلب، فأطلعني على ساعة اسمها الأجنبي «رِبكو» قال: انظر الساعة هذه تقف نريد نصلحها لأخوانا هذا، ففهمت أن أخوه هذا من تلك القرية، رأساً قلت له: اشتراها من هنا من دمشق من المحل الفلاني؟ قال: نعم، ولم يهتم بها، لكن أنا لفت نظره؛ لأنه هو معنا سلفي، قلت: ها أنتم تنكرون الكشف هذا كشف, ها أنا عرفت أن هذه الساعة الذي ساكن في قرية بعيدة عن دمشق نحو مائة وخمسين مائتين كيلو متر وقريبة من حمص بأقول: اشترها من أين؟ من دمشق، فأصبت هذه فراسة؛ لأني ربطت بين الماركة هذه ما هي معروف تاجرها إلا في دمشق
وهذا الذي يريد أن يشتريها لا بد ما يأتي إلى هنا؛ لأنه ما هو موجودة في بلد
آخر، فأصاب الهدف تماماً، فلفت نظره إلى النكتة هذه .. هذا كشف وأنتم
تنكروا الكشف.
لكن بنفس الوقت نكتة أبلغ من هذه بكثير دخل إلي طالب علم .. طالب علم قوي فيما يسمى بعلوم الآلة في النحو والصرف إلى آخره يقول لي يا شيخ! بعدما سلم طبعاً: آية أشكل عليّ مرجع الضمير فيها آية أشكل عليه مرجع الضمير فيها، قلت له: انظر بقى «لعل» ما قلت له: هي كذا؛ لأني محتاط، قلت: لعلك تعني قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا} (الأعراف: 190)، قال: والله هذه فلما رجعت قلت لهم: ما زلتم تنكرون الكشف هذا الكشف ما صار معي
أنا؟ صار معي إذا صح التعبير كمبيوتر إلهي ما هو رجل طالب علم أقوى مني في علوم الآلة أشكل عليه الضمير في آية إلى أين راجع؟ على حدود ما علمت أنا استحضرت هذه الآية قلت له: لعلها هي، قال: هي .. هي.
فإذاً هذا ما هو كشف هذا عبارة عن فراسة وعن مقدمات تكون في نفس المتفرد فيصيب الهدف أحياناً ويخطأ أحياناً، كذلك المفسر أو المؤول للرؤى قد يصيب أحياناً ويخطئ أحياناً هذا ليس أن له علاقة إطلاقاً بأنه اطلع على الغيب هذا جواب ما سألته»([5]).

الوجه الثامن: أن إخبار العالم التقي، المعروف بصدقه واتباعه ببعض الأمور التي تقع في قلبه، فينطق بها لسانه قد يكون من باب الكرامة والإلهام، كما قد دل عليه الدليل، وحصل في الأمة.
عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال، يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر». رواه البخاري.
وعن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول: «قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد، فإن عمر بن الخطاب منهم» رواه مسلم.
عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ وَلَا مُحَدَّثٍ» ([6]).
والمراد بالمحدثون: 
قال ابن وهب: «تفسير محدَّثون: ملهمون»([7]).
وقال الحميدي: «الـمُحَدَّثُ: الملهم للصواب»([8])
قَالَ البيهقي في شعب الإيمان (7/ 489): «وقَدْ رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّهُ قَالَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ، يَعْنِي يُلْقَى فِي رَوْعِهِ».
وقال البغوي في شرح السنة(14/ 83) : «قَوْلُهُ: «مُحَدِّثُونَ»، فَالْمُحَدِّثُ الْمُلْهَمُ يُلْقَى الشَّيْءُ فِي رُوعِهِ، يُرِيدُ قَوْمًا يُصِيبُونَ إِذَا ظَنُّوا، فَكَأَنَّهُمْ حَدَّثُوا بِشَيْءٍ فَقَالُوهُ، وَتِلْكَ مَنْزِلَةٌ جَلِيلَةٌ مِنْ مَنَازِلِ الأَوْلِيَاءِ».
وقال ابن قتيبة: «قَوْلُهُ : " مُحَدَّثِينَ " : يُرِيدُ قَوْمًا يُصِيبُونَ إِذَا ظَنُّوا وَإِذَا حَدَسُوا، يُقَالُ : رَجُلٌ مُحَدَّثٌ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لأَنَّهُ يُصِيبُ رَأْيُهُ، وَيَصْدُقُ ظَنُّهُ إِذَا تَوَهَّمَ، فَكَأَنَّهُ حَدَّثَ بِشَيْءٍ فَقَالَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَلَيٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ابْنِ عَبَّاسٍ : إِنَّهُ لَيَنْظُرُ إِلَى الْغَيْبِ مِنْ سِتْرٍ رَقِيقٍ، وَقَالَ الشَّاعِرُ :
وَأَبْغِي صَوَابَ الظَّنِّ أَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا طَاشَ ظَنُّ الْمَرْءِ طَاشَتْ مَقَادِرُهُ
وَقَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ :
الأَلْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ لَكَ الظَّنَّ كَأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ لَمَعَا
وَيُقَالُ فِي بَعْضِ الأَمْثَالِ : مَنْ لَمْ يَنْفَعْكَ ظَنُّهُ لَمْ يَنْفَعْكَ يَقِينُهُ.
وَالْمُرَوَّعِ : الَّذِي أُلْقِيَ فِي رَوْعِهِ الشَّيْءُ، كَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ أَلْقَاهُ فِيهِ فَقَالَهُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي روعِي، أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ ([9])».وَالرّوعُ فِي النَّفْسِ، يُقَالُ : وَقَعَ كَذَا فِي روعِي، أَيْ : فِي خَلَدِي وَنَفْسِي، وَكَانَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ الشَّيْءَ وَيَظُنُّ الشَّيْءَ فَيَكُونُ كَمَا قَالَ وَكَمَا ظَنَّ، كَقَوْلِهِ فِي سَارِيَةَ بْنِ زُنَيْمٍ الدُّؤَلِيِّ، وَكَانَ وَلاهُ جَيْشًا، فَوَقَعَ فِي قَلْبِ عُمَرَ أَنَّهُ لَقِيَ الْعَدُوَّ، وَأَنَّ جَبَلا بِالْقُرْبِ مِنْهُ، فَجَعَلَ عُمَرُ يُنَادِيهِ يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ الْجَبَلَ، وَوَقَعَ فِي قَلْبِ سَارِيَةَ ذَلِكَ، فَاسْتَنَدَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْجَبَلِ، فَقَاتَلُوا الْعَدُوَّ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ([10])، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ»([11])، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : «إِنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ»([12])، هَذَا أَوْ نَحْوِهِ مِنَ الْكَلامِ.وروي في بعض الحديث أن الْمُحَدَّثَ هو : الَّذِي تنطق الملائكة عَلَى لسانه» انتهى([13]).
وقال أَبُو أَحْمَدَ العسكري: «فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم : محدثون : يريد قوما يصيبون إِذَا ظنوا، ويقال : رجل محدث : يصيب رأيه، ويصدق ظنه إِذَا توهم، فكأنه محدث بشيء يقال له .
والمروع : مثله الَّذِي يلقى في روعه الشيء، ومنه قوله : نفث في روعي، أي : في خلدي وفي نفسي، ومثله : الألمعي والنقَّاب.
وقال الشاعر: نقاب يحدث بالغائب ([14])
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: «وإذا اشتد قرب الملك من العبد: تكلم على لسانه، وألقى على لسانه القول السديد، وإذا بعد منه وقرب منه الشيطان: تكلم على لسانه، وألقى عليه قول الزور والفحش، حتى يرى الرجل يتكلم على لسانه الملك، والرجل يتكلم على لسانه الشيطان. وفي الحديث: «إن السكينة تنطق على لسان عمر رضي الله عنه»»([15]).

الوجه التاسع: أن الإقسام على الله بأنه سيفعل كذا داخل في الكلام في المستقبل، وهو مما جاء به النص.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك كسرت ثنية جارية، فعرضوا عليهم الأرش، فأبوا، وطلبوا العفو، فأبوا، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمر بالقصاص، فجاء أخوها أنس بن النضر عم أنس بن مالك، فقال: يا رسول الله، أتكسر ثنية الربيع؟ لا، والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنيتها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أنس، كتاب الله القصاص».
قال: فعفا القوم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره»([16]).
قال الحافظ ابن حجر: «وجه تعجبه أن أنس بن النضر أقسم على نفي فعل غيره مع إصرار ذلك الغير على إيقاع ذلك الفعل، فكأن قضية ذلك في العادة أن يحنث في يمينه، فألهم الله الغير العفو فبر قسم أنس، وأشار بقوله: «إن من عباد الله» إلى أن هذا الاتفاق إنما وقع إكراما من الله لأنس ليبر يمينه، وأنه من جملة عباد الله الذين يجيب دعاءهم ويعطيهم أربهم»([17]).
الوجه العاشر: أن علماء السنة-كالإمام ابن القيم، والحافظ ابن كثير ومن جاء بعدهما- لم يستنكروا ما حصل من شيخ الإسلام رحمه الله فضلاً عن أن يكفروه أو يضللوه، بل عدوا ذلك من فضائله، وقوة إيمانه، وأن هذا مما أكرمه الله به.
وأهل السنة يثبتون كرامات الأولياء، الذين ظهر في الناس صدقهم وصحة دينهم.
الخلاصة: فتبين مما سبق أن عماد فراج قد أجرم إجراماً عظيماً بتكفيره لشيخ الإسلام ابن تيمية لكونه تكلم بما حصل له من فراسة، وبما وفقه الله له، وبما أكرمه به من الكلام بالقرائن الحالية التي غلب على ظنه وقوعها فوقعت على وفق ما قال، وصدَّق الله ظنه، ووقع ما بشَّر به الناس من النصر على الأعداء.
فرحمه الله وغفر له، وعامل عماد فراج بعدله.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
كتبه:
أسامة بن عطايا بن عثمان العتيبي
20/ رمضان / 1436 هـ

الهوامش والحواشي:

([1]) وبإذن الله بعد انتهائي من كشف شبهات عماد فراج أعود فأستعرض جميع النقولات عن شيخ الإسلام التي استند إليها عماد فراج في تكفير شيخ الإسلام ابن تيمية بقضية العذر بالجهل، وأبين سوء فهم عماد فراج لها، وأنه مفتر كذاب. 

([2]) ما بين المعقوفين من تعليق شيخنا الشيخ ربيع حفظه الله.

([3]) أفاده شيخنا الشيخ ربيع حفظه الله.

([4]حديث حسنٌ. ورد من حديث أبي أمامة، وأبي هريرة، وثوبان، وأبي سعيد، وابن عمر، وأحسنها حديث أبي أمامة، رواه ابن أبي خيثمة في تاريخه، والحكيم في نوادر الأصول، والطبراني في الكبير (7497)، وفي الأوسط (3254)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 118)، وفي الأربعين (54)، والبيهقي في الزهد الكبير (358)، والقضاعي في مسند الشهاب (663)، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله (785)، من طريق عبدالله بن صالح كاتب الليث عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي أمامة، وإسناده حسنٌ، لأن رواية الأئمة الكبار عن كاتب الليث حسنةٌ قوية، وقد العلامة المعلمي في تعليقه على الفوائد المجموعة للشوكاني (ص/244): «فلا اعتداد إلا بما رواه المتثبتون عنه، بعد اطلاعهم عليه في أصله الذي لا ريب فيه، وعلى هذا حمل ما علقه عنه البخاري»، وقد رواه عنه: الإمام يحيى بن معين، والإمام محمد بن عوف الحمصي، وغيرهما، وحسنه: الهيثمي، والسيوطي، والشوكاني، وغيرهم. وانظر: [الضعيفة:1821].

([5])موسوعة الألباني في العقيدة (3/ 887-890) والكلام في سلسلة الهدى والنور (688/ 11: 11: 00).

([6]علقه البخاري في صحيحه(5/ 12)، ووصله: إسحاق في مسنده(2/479-480رقم1079)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (4/ 342) وسنده صحيح. واللفظ لإسحاق. ولفظ البخاري: قال ابن عباس رضي الله عنهما: «من نبي ولا محدث».

([7])رواه مسلم.

([8])رواه أبو نعيم في فضائل الخلفاء الراشدين(ص/ 42).

([9]) حديث صحيح. رواه ابن أبي شيبة (34332)، وإسحاق في مسنده (927 - المطالب العالية)، وهناد في الزهد (494)، وابن مردويه في أماليه (24)، والقضاعي في مسند الشهاب (1151)، وغيرهم من طريق عبدالملك بن عمر وزبيد اليامي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - به، وإسناده منقطع.
ورواه الحاكم (2/ 5)، والبيهقي في الاعتقاد (ص/173)، وفي القضاء والقدر (235)، من طريق يونس بن كثير عن ابن مسعود - رضي الله عنه - به. ويونس غير معروف، وقد تصحف في مطبوع المستدرك إلى «يونس بن بكير». وقد رواه ابن ماجه (2144)، وابن الجارود (539)، وابن أبي عاصم في السنة (420)، والحاكم (2/ 5)، وغيرهم من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا: «أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجمل بهوا في الطلب خذوا ما حل ودعوا ما حرم».
ورواه ابن حبان (3239، 3241)، والحاكم (2/ 4)، والبيهقي (5/ 264)، وغيرهم من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن محمد بن المنكدر عن جابر - رضي الله عنه - به، وإسناده صحيح.
ورواه الشافعي في الأم (7/ 299)، وعلي بن حجر في حديثه (101)، والبيهقي (7/ 76)، والبغوي في شرح السنة (4110)، وغيرهم من طريقين عن المطلب بن حنطب مرسلا، بمثل حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. فالحديث صحيح بشواهده. [الصحيحة: (6/ 865رقم2866) ].

([10]) انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للإمام الألباني (3/ 101رقم1110).

([11]) رواه الترمذي (5/ 617) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- وقال: حديث حسن. ورواه ابن ماجه (1/ 40) وأحمد في مسنده (2/ 53) وابن حبان في صحيحه (9/ 22) وغيرهم من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - وسنده صحيح.

([12]) صحيح موقوفا. رواه معمر في جامعه (20380)، والقطيعي في زوائده على فضائل الصحابة للإمام أحمد (522)، والآجري في الشريعة (1205) بسند حسن. ورواه الفسوي في المعرفة والتاريخ (1/ 246)، والطبراني في الأوسط (5549)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 42)، وفي الإمامة (67)، من طريق أبي إسرائيل عن الوليد بن عيزار عن عمرو بن ميمون عن علي - رضي الله عنه - قال: «إذا ذكر الصالحون فحي هلا بعمر، ما كنا نبعد أصحاب محمد عليه السلام، إن السكينة تنطق على لسان عمر»، وإسناده حسن. وروي من طرق عن الشعبي عن علي - رضي الله عنه -، ووصله بعضهم بذكر أبي جحيفة، وفي سند رواية الشعبي اختلاف. وهو أثر صحيح بما سبق. وانظر لأثر الشعبي وغيره: مسند أحمد (1/ 106)، ومصنف ابن أبي شيبة (31974)، الشريعة للآجري باب ما روي أن الله عز وجل جعل الحق على قلب عمر ولسانه، وأن السكينة تنطق على لسانه (4/ 1886)، والعلل للدارقطني (3/ 209، 4/ 136)، وحلية الأولياء (1/ 42)، وتاريخ دمشق (44/ 95، 96، 108 - 111).

([13]) غريب الحديث لابن قتيبة (1/312- 313).

([14])تصحيفات المحدثين لأبي أحمد العسكري(1/269).

([15]) الداء والدواء(ص/74).

([16]) رواه البخاري في صحيحه(3/ 186رقم2703).

([17]فتح الباري (12/ 279).